خيمة المسلمة.

 بسم الله الرحمن الرحيم


في كل آيات الله العظيمة من حولنا لا ذهول يذهلني كخلقة البشر ولا عجب أشد من عجبي بنفسه الضعيفة، وكلما مررت على قوله تعالى: "وَفِيْ أَنْفُسًكُمْ أَفَلَاْ تَتَفَكَّرُوْنْ"، يجول في خاطري ما تكابده نفسي بسبب شيء لا يحس باليد ولا يدرك بالعين يقلب الطبائع ويوجه الجوارح!

من المعيب أن يجد الإنسان نفسه باتساع هذا الكون وعظم آيات الله فيه من أدق ذرة إلى أعظم مجرة، وبالرغم من ضعف هذه النفس التي لا يدري أين ستقوده ومن أي مهلك ستردي به، يجد أنه يأتي ليقف على تشريع ديني ينتقده ويماري فيه، ويطلق حوله التشكيكات والطعنات..

لم تعدو هذه التشكيكات والادعاءات الأحكام الفقية المختلف عليها بل ثوابت الدين أيضا، فساموا المعلوم في الدين بالضرورة عدوانا وتعديا، وأصبح الكل يفتي ويخترع له دينا ونهجا ينهجه ويحذوه وما بحث وقال إذ قال ولكن هواه أمره ونهاه وهواه من اخترع وابتدع، ولست اليوم في صدد الخوض في هذه الادعاءات فقد صدعت رؤوسنا بالقيل والقال والأخذ والرد، ولم يسكت أهل الله لا عن الجاحد ولا المنافق وامتلأت القنوات والحسابات بالردود والتصريحات والمبادرات ولله الحمد والمنة، ولتعرفوا إخواني في الله أن ديننا قوي عزيز كامل ومصون، وإن ثلة قليلة تقوم رافعة الحق بها يسود ويندحر الباطل لأنه دين مشع بذاته هو من ينور النفوس وإن الناس بحاجته وليس العكس فبه تزهر البلدان وتعمر وتتسربل بالنمو والحضارة والتمدن ..

      ولنا هنا بعيدا عن الشبهات وقوف لطيف على تأمل أرجو منه بأن يفتح للقارئ ذهنه للتفكر والنظر في سعة آيات الله وسعة خيرات الإسلام، فليفتح القارئ لهذه الوقفات زوايا الفكر ولينظر ما يبديه له عقله وما يسعفه اطلاعه وعلمه لعل الله يرشده لمكمن لم يرشد إليه أحد من ولد آدم.

 

وإني أستميح القارئ عذرا على ضعف التعبير والاطلاع، وإنما هي خلجات في النفس أود أن أجد لها نفوسا تشاطرني فيها الاندهاش والتفكر.

قد قال ابن القيم الجوزية في مقولته المعروفة: "من ذاق عرف ومن عرف اغترف ومن اغترف نال الشرف". وزاد عليه أهل التصوف بقولهم (من ذاق عرف ومن عرف اعترف ومن اعترف اغترف ومن اغترف أدمن ما عرف). وهذه العبارة في حب الله والمصطفى صل الله عليه وسلم، والحب لا يصدق إلا بالاتباع.

ولا أدعي أنني ذقت كما ذاقوا فعرفت ولكن قد أكون نلت لذة رشفة من عذب الشراب الذي قصده، وإنك لو طعمته لحسته نفسك وافرا ريا، ثم سرعان ما تدرك أنك طعمت رشفة من بحر لجي لا قاع له، ولا تفتأ تتقلب في صنوف الأعمال ساعيا للذة القرب راجيا شربة من بعد تلك الرشفة.

لا يدرك العقل قيمة ما يملك حتى يفقده ولا يدري الذي ألف النعمة أنه في نعمة، ولا يفهم المحروم أنه حرم حتى يعيش الحالتين من الفقر والغنى، وإن تحدثنا هنا عن التنعم في كنف الإسلام نجد أن جموع المسلمين الذين ولدوا على الدين في أغلب الأحوال لا يدركون عظم النعمة التي اجتباهم الله بها وخصهم، والذين يدركونها هم من ذاقوا شقاء الكفر وذل التخبط والانحراف، وهذا طبيعي لما سلف ذكره لألفة النفس البشرية وهذه جبلتها والحصيف من الخلق الذي يعظ نفسه ويذكرها باستمرار.

 

هذا الإقبال على الحق منشأه الراحة النفسية وانسجام الفطرة البشرية مع شرعة الله تبارك وتعالى..

ولكني تأملت في أمر فريضة الحجاب وتساءلت في نفسي ماذا يدفع المرأة التي جبلت على حب إظهار الزينة والجمال إلى تغطية نفسها ومواراة زينتها عن الأنظار؟

كيف يؤثر هذا الحجاب على المسلمة نفسيا، وكيف ترتاح المسلمة الحقة بهذا الشيء وإن كانت تشتهي إعلان جمالها وزينتها؟

 أولا لنفهم معنى الزينة فهما سريعا، يقول القزويني في معجم مقاييس اللغة: "الزاي والياء والنون أصل صحيح يدل على حسن الشيء وتحسينه". والزينة شرعا حسب تعريف الزمخشري في الكشاف: "هي الثياب وكل ما يتجمل به". والزينة في أصلها حاجة بشرية عند المرأة وتلبية للجبلة الأنثوية، وإن اختلفت أشكالها وأنواعها باختلاف الزمان والمكان.

ولفهم ما يقصده القرآن بهذه الزينة نأتي لقوله تعالى:" وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ"، وهذه طريقة قرآنية في سن الأحكام، وهي ذكر الأدنى ليفهم منه أن ما فوق ذلك قطعا غير جائز. فإن كان مجرد الضرب بالأرجل كإشارة على وجود الزينة منهي عنه، فما بالنا بإظهار هذه الزينة ذاتها؟ وهنا فإن الزينة هذه المراد بها كل ما يمكن أن يثير مشاعر الرجل وانتباهه..

 

وبعد البيان السريع هذا، نطرح السؤال بصيغة أوضح، كيف تعامل الإسلام مع حاجة التزين عند المرأة؟ هل كبتها فعلا؟

الجواب: لا، بدليل ما سلف قوله حول ميل النفوس للإسلام، فقد انسجمت الشريعة مع هذه الحاجة وكل الحاجات الأخرى عند الإنسان وقامت بتوجيهها وضبطها، ولم تقم بكبتها ومنعها. فوجهت شرعة الله النفس توجيها يراعي كل طبائعها وحاجاتها وكذلك يراعي صفاتها الفطرية الأخرى كالحياء، وابعدت عنها ما يؤذيها ويمتهنها ويحط مكانها، وإن كانت النفس بذاتها تسعى بشهواتها للذل ولا تدرك مآلات اتباع الهوى وإن لم يفهم العبد سبب المنع والتحريم أو سبب الإباحة ذلك ليس من شأنه إلا أنه هنا في هذه الحالة معلوم الغاية.

 

هذا الاتباع  لتعاليم الله تعالى قد تبدي له النفس إن جبرت عليه مقاومة في البداية والفرق بين من يحب الله حقا وبين المنافق هو الرضا بشهوات وهوى النفس وقبول دعوتها، فإن قاوم الإنسان نفسه بادئ الأمر فإنه سيلقى المدد والعون من الله تعالى والتيسير في عمله إن صدق الله تعالى وحده. وأما الذي يرضى ويسلم اتباعا للهوى يذره الله في تلك اللجج والمعامع فيشقى وأنى له نيل الراحة بالصدود!

إن هذا الاتباع لا شك له مناقب تتنزل على المؤمن تنزلا ربانيا تنعكس على فؤاده بالسكينة والرضا، والحجاب هكذا فهو ليس أمرا ظاهرا وحسب هو ليس نسيجا نسج وقطع وخيّط لتلتف به المرأة، هو في الواقع منظومة كاملة شاملة وحماية أوسع من هذا المعنى الضيق. ولعل أطرف جملة يمكن أن نعمل بها أن الرداء هذا كلما كان فضفاضا وشاملا اتسعت حقا دائرة النفع!

ولأنها هذه التي امتثلت وعت أنها أدت حقها، ووعت أنها حمت نفسها أولا ثم حمت الرجال من شهواتهم، واحترمت أيضا إخوانها المسلمين، فلم تتعدى حرياتهم بكشف نفسها وإفساد سرائرهم، بل بطلان عباداتهم إن نظروا إلى عورتها وهم على صوم أو وضوء، فذلك يؤذي عبادتهم فضلا عن إيذاء نفوسهم. وهكذا أراد الله للمسلمين أن يراعي كل منهم الآخر ويشد كل منهم أخاه للطاعة والتقوى، وحجاب المسلمة كلما زادت هي به تمسكا زاد تماسك المجتمع وترابطه، فإن وجودها فقط بهذا الحجاب وحده يشكل تغذية بصرية حسية لكل من يراها فيعتاد مظاهر الإسلام وينشأ في نفسه ميل لهذه المظاهر، ويلزم نفسه بقصد أو بغير قصد احترام حدود التعامل مع النساء، لما يحمله الحجاب الكامل من صفات الهيبة والوقار.

فهو بهذا يعم المجتمع كله بل الأمة جمعاء، من أقرب قريب للمرأة حتى أبعد بعيد. وهنا إن قيل خيام فهي فعلا خيام ولم يصنع الحجاب أبدا للفت النظر والأناقة البتة، فإن كان وضع لصد الرجال الغُرب فما المانع من جعلها خياما!

 

الحجاب منظومة كاملة فهو في حقيقته وقار واحتشام وغلظة!

فإن قال الله تعالى في محكم تنزيله: " يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا "، فما كان الهدف من النهي؟!

فلنتأمل هذه مليا، أحقا المتحجبة صدقا التي تخالط الرجال بلا ضوابط، أم التي تكثر الحديث والقيل والقال حتى تخوض فيا لا طائل من ورائه مع غير المحارم الغربا؟ أم التي لا تتورع عن فعل ما تفعله نساء غير المسلمين بحجة أن الحجاب ليس مانعا؟

فتظهر لنا فئة مقززة تلبس النقاب وقد تلبس لباسا فضفاضا، وتتصرف كالسافرة! أهذا حقا حجاب؟

في الواقع هذه خدعت نفسها فهي وجدت راحتها بالتغطية لحياء المرأة الفطري، ولكنها في نفس الوقت لم تحسن فهم هذا الستر فهي تريد التواري وفي نفس الوقت تريد الظهور!!

ونجد لهذا المعنى ألفاظا تكررت في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم في روايات استدل بها حول فرضية الحجاب، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: "يرحَمُ اللهُ نساءَ المهاجراتِ الأُوَلَ، لَمَّا أنزَلَ اللهُ: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شقَقْنَ أكنَفَ -قال ابنُ صالحٍ: أكثَفَ- مُروطِهنَّ، فاختَمَرنَ بها".

وفي رواية: "لقَدْ كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي الفَجْرَ، فَيَشْهَدُ معهُ نِسَاءٌ مِنَ المُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ في مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلى بُيُوتِهِنَّ ما يَعْرِفُهُنَّ أحَدٌ"..

ولنلحظ هذه اللفظة (ملتفعات) ومعناها متغطيات وهو مصطلح يطلق إن عم الثوب وشمل وغطى، ولا يعقل أن يعم نساء الأنصار الأول الغطاء ويبدين بعده خضوعا وميوعة، فقد كن كما قالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضها "كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية".  فيروى عنها أنها قالت: لمَّا نزلت "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ": خرجَ نساءُ الأنصارِ كأنَّ علَى رؤوسِهِنَّ الغِربانَ منَ الأَكْسِيَةِ.

هكذا وعت خيرة من خلق الله من النساء بسلامة الطبيعة وعفوية الفطرة أن أمرا كهذا يعني غير التغطية اتباعه بأمور له لازمة لا يجوز فصلها عنه. رحم لله نساء الأنصار الأول وألحقنا بهن وجعلنا ممن يحذو حذوهن.

وفي رواية فتح الباري عن أمنا عائشة رضي الله عنها: " والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقًا بكتاب الله ولا إيمانًا بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، فانقلب رجالهنَّ إليهن يتلون ما أنزل فيهنَّ، ما منهنَّ امرأة إلا قامت إلى مرطها، فأصبحنَ يُصلين الصبح مُعتَجِرات كأن على رؤوسهن الغُربان".

وهذه اللفظة الثانية أيضا تحمل نفس المعاني فقولها (معتجرات): تدل على مبالغة في الستر، والعجر (بفتح العين وكسر الجيم) تعني غلظ وسمن، وهي من نفس الجذر، والعجر بالكسر (كسر العين) يعني كما جاء في مختار الصحاح: " ما تلفه المرأة على رأسها". وجاء في لسان العرب: " العِجارُ ثوب تَلُفُّه المرأَة على استدارة رأْسها ثم تَجَلَّبَبُ فوقه بجلِبابِها والجمع المَعاجرُ ومنه أُخذ الاعَتِجارُ وهو لَيُّ الثوب على الرأْس من غير إِدارة تحت الحنَك".

وعند ابن منظور في لسان العرب: "في حديث عبد الله بن عدي الخيار: وجاء وهو معتجر بعمامته ما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه، الاعتجار بالعمامة هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه".  فهو يعني تغطية الوجه بالثوب الذي يطوى به الرس معا.


أخيرا أحب أن أعيش في عالم أمنياتي الخاص وأن أذكر نفسي بها باستمرار، ومن أمنياتي التي أجدها حاضرة  قريبة المنال أن أرى نساء المسلمين جميعا معتجرات بالأثواب الغليظة كأن على رؤوسهن الغربان.

ولعل هذا كل ما وددت ذكره باختصار، ولي أفكار أخرى لا أجد حاجة في إطالة المقال بها، لأنكم بهذه المعاني التي كتبت لعلكم ستفرخون منها معان أخرى متعلقة، والله ولينا وهذا وأقول مقالتي هذه وأستغفر الله لي ولكم، شاكرة لكم حسن القراءة.  



📍اليمن.

                          📍أفغانستان.
                📍جبل نفوسة (ليبيا).


                     📍الهند.

                    📍المملكة العربية السعودية.



            📍ماليزيا.


#

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتب ينصح بها لطلبة العلوم الشرعية